محمد أحمد محمد صباح الخيرمدير العلاقات الدولية المكلف
ومشرف وحدة الإنذار المبكر بالهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية
الزملاء والزميلات الأعزاء، الأخوة في الصحافة ووسائل الإعلام،
نود أن نشارككم تحليل موسم الأمطار (يونيو-سبتمبر) لعام 2024 حتى تاريخه، بالإضافة إلى تقييم التوقعات الموسمية لهذا العام. كما نقدم تفسيرًا لظاهرة الأمطار الغزيرة التي هطلت على مستوى السودان عمومًا، وخاصة في ولايات الشمالية، ونهر النيل، والبحر الأحمر، والتي تسببت في دمار كبير للمنازل والممتلكات والبنى التحتية، وفقدان أرواح عديدة. نأمل أن يسهم هذا التقرير في سد الثغرات وتقديم النقد البناء لما قامت به الهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية، وإضافة لإثراء النقاش وتسليط مزيد من الضوء على هذا الموسم الاستثنائي، وتصحيح ومعالجة الأخطاء التي قد تكون وقعت. نلتمس العذر فيما أخطأنا، وندعو إلى تصويبها.
تأثرت الهيئة العامة للأرصاد الجوية، كغيرها من مؤسسات الدولة، بنتائج الحرب الدائرة. تمثلت هذه التأثيرات في خسارة العديد من محطات الرصد الجوي والأجهزة والنماذج العددية التي تشكل البنية التحتية الأساسية لأداء مهامها. إضافة إلى ذلك، تعاني الهيئة من نقص حاد في التمويل اللازم لتسيير العمل وتغطية تكاليف الضرورية. والنقص الحاد في الكادر البشري المدرب، الذي يعتبر أهم مورد على الاطلاق ورأس مال لا يقدر بثمن، نتيجة النزوح وظروف الحرب. ورغم كل هذه التحديات، ما زالت الهيئة تقوم بدورها الحيوي في تقديم خدماتها لكافة القطاعات.
لن يكون الحديث ذا أهمية عن الوضع الراهن والتوقعات المستقبلية دون التطرق إلى السؤال المهم: هل أصدرت الهيئة العامة للأرصاد الجوية توقعاتها لهذا الموسم؟ ومتى كان ذلك؟ بدون الإجابة على هذا السؤال، يكون الحديث ناقصًا وغير مكتمل.
أصدرت الهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية التوقع الموسمي للأمطار بتاريخ 3 يونيو 2024، في فندق كورال ببورتسودان، ضمن فعاليات الملتقى الأول للمناخ في السودان، تحت شعار "النهج المنسق والإنذار المبكر لأجل تدابير مبكرة واستباقية"، بحضور عدد كبير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وبمشاركة القطاعات المختلفة العاملة في مجالات درء الكوارث، الأمن الغذائي، الموارد المائية، البيئة، الصحة، ومنظمات العون الإنساني. خرج الملتقى بتوصيات تم نشرها لهذه القطاعات ووسائل الإعلام المختلفة، وكان الوقت كافيًا جدًا للتأهب والاستعداد لمجابهة الأخطار المحتملة والتخطيط للحد من هذه المخاطر.
تم توقع هذه الأمطار الغزيرة وكذلك السيول المصاحبة لها، وفيضانات الأودية والخيران ونهر القاش، من خلال ملامح المناخ التي أشار إليها التوقع. كما تم التوقع بحركة حزام الأمطار الغزيرة من موقعه الطبيعي في وسط وجنوب وسط البلاد شمالاً حتى منطقة شمال الوسط التي تشمل ولايات نهر النيل، الشمالية، وولاية البحر الأحمر. كذلك تم التوقع بدرجات حرارة عالية خلال صيف هذا الموسم أعلى بكثير من المعدلات المناخية لجميع ولايات السودان، خاصة ولايات البحر الأحمر والشمالية ونهر النيل.
لقد شهد الجميع التداعيات الكبيرة لموسم الامطار ودرجات الحرارة العالية في فصل الصيف هذا العام والاعوام السابقة في العقدين الاخيرين، أدت إلى فقدان الأرواح جراء ضربات الشمس، والسيول، والأمطار، وفيضانات الأنهار.
كانت تداعيات التغيرات المناخية على كوكب الأرض كبيرة جدًا هذا العام والأعوام السابقة، وتجلت في عدة ظواهر مناخية متطرفة. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، التقلبية المناخية العالية والتقلبية الموسمية التي تظهر في تحول الظاهرة المناخية إلى نقيضها بصورة سريعة غير متدرجة، وكذلك ازدياد وتيرة الظواهر المتطرفة المتمثلة في موجات الحر، ودرجات الحرارة العالية، والرطوبة العالية، والهطول الغزير للأمطار، وتغير الأنماط المناخية المعتادة، وظهور أنماط مناخية غير مألوفة.
في آخر تحديث لها، صنفت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية العام 2023 كأعلى حرارة على مستوى العالم منذ أكثر من مائة عام، وكان شهر يوليو هو الأعلى حرارة على الإطلاق منذ أكثر من مائة عام مضت. وكان السودان ضمن الدول التي سجلت فيها أعلى درجات الحرارة في مدن دنقلا، كريمة، أبو حمد، حلفا الجديدة، بورتسودان، وعطبرة.
نتيجة للتقلبية المناخية العالية لهذا العام، فقد تغير سلوك العوامل المؤثرة على طقس البلاد لهذا الموسم، وأعني بذلك الفاصل المداري ومنخفض الهند الموسمي، وهما العاملان اللذان يحددان سلوك الأمطار والحرارة خلال هذا الموسم. في الوضع الطبيعي، أقصى حركة للفاصل المداري تكون في الحدود الشمالية للسودان لفترة قصيرة ثم يتراجع جنوبًا، وكذلك يتمركز منخفض الهند الموسمي داخل السودان في الجزء الشمالي منه. لكن خلال هذا الموسم، تعمق الفاصل المداري ومنخفض الهند الموسمي داخل الأراضي المصرية وأصبحنا نتشارك هذه المعالم بعد أن كانا ظاهرتين مقتصرتين على السودان. وأصبح السودان كله تحت تأثير الرياح الجنوبية الرطبة، ما زاد من احتمالية هطول الأمطار بكميات كبيرة وفي أي منطقة بالسودان، وفي أي وقت.
نتيجة لهذه الأوضاع المتطرفة، تعرضت ولايات مثل الشمالية، ونهر النيل، والبحر الأحمر لهذه الأمطار الغزيرة غير المسبوقة، وكذلك درجات الحرارة غير المعتادة.
سجلت مدينة أبو حمد أمطارًا ليوم واحد بلغت 142 ملم بتاريخ 6 أغسطس 2024، وهي أمطار استثنائية في منطقة تعتبر صحراوية، لذلك كان التأثير عميقًا والدمار كبيرًا لعدم اعتياد المنطقة على هذه الكميات من الأمطار، إضافة إلى السيول القادمة من مرتفعات البحر الأحمر.
كذلك سجلت شندي أمطارًا مقدارها 126 ملم ليوم واحد بتاريخ 9 أغسطس 2024، وتعتبر قيمة عالية أصبحت متكررة في العقود القليلة الماضية. كما سجلت مدينة كسلا أمطارًا بلغت 118 ملم ليوم واحد بتاريخ 26 يوليو 2024، وهي أمطار معتادة مناخيًا لهذه المنطقة، لكن الضرر كان نتيجة السيول وفيضان نهر القاش الناتج عن سوء استخدام الأراضي وعدم مراعاة حرم النهر.
كما سجلت بورتسودان أمطارًا ليومين متتاليين، بلغت 27.4 ملم و18.4 ملم يومي 1 و2 أغسطس، وهي أمطار استثنائية غير معتادة في هذا الوقت من العام، حيث إن أمطار الساحل عادة ما تكون شتوية وليست صيفية، مما يدل على بداية تغير في أنماط الهطول، وبالتالي مؤشر من مؤشرات التغير المناخي. كذلك سجلت وادي حلفا أمطارًا مقدارها 9.0 ملم ليوم واحد بتاريخ 9 أغسطس 2024، وهي أمطار غير معتادة لهذه المنطقة، حيث إن المعدل السنوي لأمطار هذه المنطقة لا يتعدى 10 ملم.
عليه، لا زال الوضع المناخي الذي أدى لهطول هذه الأمطار الغزيرة جدًا والاستثنائية والغير معتادة في تلك المناطق وغيرها قائمًا، لذلك يصبح هطول أمطار بنفس المقادير تذيد او تنقص في تلك المناطق وغيرها متوقعًا لدرجة كبيرة خلال الفترة القادمة من هذا الفصل من السنة، خاصة أن الفترة القادمة من شهر أغسطس تمثل ذروة موسم الأمطار لهذا العام، والذي يتوقع فيه أعلى كميات من الأمطار.
أتمنى أن يكون هذا التقرير المبسط قد أجاب عن بعض أسئلة المواطنين، على أمل أن تكتمل الإجابة بعد نهاية الموسم، حين يتم التقييم الكامل لموسم الأمطار. كما نتمنى أن يدلي أصحاب الشأن من خبراء القطاعات الأخرى وشركاء المناخ في الهيدرولوجي، البيئة، الجيولوجي، الجغرافيا، الزراعة والغابات، وغيرها من القطاعات زات الصلة، بمساهماتهم وتسليط مذيد من الضوء والتفسير من موقع التخصص حول ظاهرة السيول والفيضانات المدمرة والغير معتادة.
لا زلنا نعول على دور أكبر لوسائل الإعلام في الاهتمام بهذا البند المهم والحيوي، حيث إنهم يحتلون دورًا عظيمًا في سلسلة الإنذار المبكر، وذلك عبر النشر والمتابعة والتوعية بالمخاطر المتوقعة والحد من آثار الطقس والمناخ، لتقوم باقي القطاعات بدورها تجاه المواطنين في التدخل والتخفيف. ولأن العمل الاستباقي والإجراءات الوقائية أفضل وأعظم أثرًا من المعالجة وإدارة الأزمات، يصبح التخطيط الاستراتيجي للاستفادة من الإنذار المبكر أنجع الحلول لمجابهة غضب الطبيعة في مستقبل البشرية.
محمد أحمد محمد صباح الخير
مدير العلاقات الدولية المكلف ومشرف وحدة الإنذار المبكر بالهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية